كان دائما يردد وهو في العاشرة من عمره:
ـ آه لو أنني أملك محفظة.. آه لو أنني أملك مثل باقي الأولاد.. كتبا وألعابا.. وروايات؛ ليروا كيف أعمل.. وبما أنني لا
أملك شيئا.. كيف سأعمل؟
***
عندما بلغ الثالثة عشرة صار عنده كتب وألعاب ودفاتر ومحفظة؛ مثل باقي الأطفال.. ولكنه لم يعمل شيئا مطلقا، وصار يقول:
ـ كيف أعمل وليس عندي ألبسة مثل زملائي؟.. وجميعنا نعيش في غرفة واحدة.. أبي.. أمي إخوتي..؟ هل يستطيع الإنسان أن يدرس في مثل هذا المكان الضيق..؟ آه لو عندي طاولة خاصة بي.. وخزانة لي وحدي.. عندها ترون كيف اقرأ؟.
***
في الثامنة عشرة من عمره صار عنده غرفة خاصة به..
ـ إنسان مثلي.. وفي عمري.. لا يوجد في جيبه عشر ريالات كيف يقرأ ويعمل..؟ يجب أن أشتري كتبا.. وصورا.. آه.. آه.. عندها أعرف كيف أدرس؟.
***
في العشرين من عمره تحققت جميع رغباته..
ـ آه لو كانت المدرسة في ساحة واسعة.. لكان للحياة طعم آخر.. وكانت المدرسة شيئا آخر.. عندما أنتهي من الكلية.. ماذا سأعمل؟ ماذا سأعمل؟ سيرون.. سأكتب شعرا؟ إبداعيا.. إذا.. آه.. آه.. لو كانت الكلية في ساحة واسعة!.
***
في الرابعة والعشرين من عمره انتهى من الكلية وظل يقول هذا الكلام:
ـ لا أستطيع أن أعمل.. كما أشتهي.. لأنني أفكر بالخدمة العسكرية.. آه لو أنهيت الخدمة العسكرية.. لعملت ليل نهار.. دون توقف.. والأثر والإبداع لا يظهران إلا بالعمل.. سأترك كتابات تجعل كل الناس يتحدثون عني.. آه.. لولا الخدمة الإلزامية!..
***
في السادسة والعشرين من عمره.. أنهى خدمته الإلزامية:
ـ لن أعمل كي أبدع.. حاولت كثيرا فكان من رابع المستحيلات أن أعمل.. وإلا كيف سأكتب؟ أجري كل يوم خلف لقمة العيش.. كيف يعمل الإنسان.. إذا كان ملتزما بعمل ثابت ودخل ثابت..؟ آه لو أجد عملا ثابتا مناسبا.. لبقيت ساهرا طوال الليل كي أنهي مؤلفاتي.
***
في الثامنة والعشرين.. تيسر له عمل ثابت ودخل ثابت.. وظل يقول:
ـ لا أعمل والسلام.. كيف أعمل وأنا على هذه الحال؟ يجب أن يكون للإنسان غرفتان ومذياع.. على صوته يأتيه الإلهام والإبداع.. هكذا أعمل دون توقف.. آه.. آه لو عندي مذياع.
***
في التاسعة والعشرين استأجر غرفتين في أحد الأبنية.. واشترى مذياعا.. ومع هذا لم يكن يعمل كما يريد.. ولا يعطي ذاك الأثر الذي يفكر فيه منذ سنين طويلة.. ويقول دائما:
ـ آه.. آه من هذه الوحدة.. أشعر أن على صدري عشرات الجبال.. وأشعر به فارغا كمغارة لا نهاية لها.. كيف يخلق الإنسان عملا أو أثرا.. والوحدة تلفه من كل جانب..؟ يجب أن تكون هنالك قوة تدفع الإنسان وتشجعه وتحضه على العمل.. من أجل من سأعمل؟ آه.. آه.. أين أنت أيها الحب..؟
***
في الثلاثين من عمره بدأ قلبه يخفق. في البدء لم يعرف السبب.. وأخيرا أدرك أنه يحِبُّ ويُحبُّ.. ومع كل ذلك لم يستطع أن يعطي أثره ذاك الذي يفكر فيه منذ سنين.. وصار يقول:
ـ الحب شيء جميل. من حيث الجمال هو جميل.. ولكن لا طعم له ولا ينتج دون زواج.. لو أتزوج.. تتبدل حياتي ويحكمها نظام رائع.. وأعمل كما أريد.. لكن الزواج ليس بالأمر السهل.. آه..آه لو أتزوج.. أعمل على الدوام.. ولا أترك دقيقة واحدة تمر سدى.
***
تزوج في الثانية والثلاثين من عمره.. كان سعيدا أنه لم يعمل شيئا.. ولم يكتب سطرا واحدا من العمل الذي فكر فيه.. يقول إن عنده أسبابا.. وكان محقا في ذلك.. يقول:
ـ متطلبات المعيشة والمنزل أرهقت كاهلي.. أعمل ليلا و نهارا من أجل تأمين لقمة العيش.. ولم يبق عندي دقيقة فراغ واحدة كي أكتب.. ولكي يبدع الإنسان.. يجب أن يعطي كل وقته له.. يجب أن تكون جيبوبه ممتلئة.. وهذا غير ممكن براتب صغير لا يسمن ولا يغني من جوع.
***
في السادسة والثلاثين من عمره.. ازداد دخله.. فتعالوا لنصغ إليه ماذا يقول:
ـ غرفتان صغيرتان.. أولاد وزوجة وصراخ له أول وليس له آخر!.. هل يستطيع الإنسان أن يبدع ويكتب وسط هذه الضجة والازدحام؟؟ آه.. آه.. لو تيسر لي بيت كبير.. أربع أو خمس غرف.. لكنت أعمل ليلا و نهارا.
***
في الثامنة والثلاثين من عمره.. انتقل إلى بيت كبير.. كذلك لم يستطع التفرغ للكتابة بأي شكل من الأشكال.. إذا كان لا يستطيع الكتابة فهل يكون الذنب ذنبه..؟ تعالوا نسمع:
ـ كيف يعمل الإنسان في بيت يقع وسط المدينة؟ كيف أكتب إن كنت أعيش في جو امتزجت فيه أصوات الباعة والسيارات والملاهي.. كيف أنهي عملي وأثري الإبداع!.. يجب أن تتوافر لي الأجواء المناسبة.. هدوء.. راحة.. هواء طلق.. جو المدينة مليء بالأتربة والغبار.. صخب وضجيج.. ناهيك عن دخان السيارات والمعامل.. العمل هنا مستحيل.. آه ..آه.. لو أنتقل إلى بيت هادئ.. آمن مريح.. لأعمل بشكل عجيب.. في أعماقي عطش للعمل المتواصل.. ودون توقف.
***
في الأربعين من عمره تحققت أمنيته وانتقل إلى بيت واسع جميل.. يخيم عليه الهدوء. ومع هذا.. لم يستطع العمل كما يريد.. فلم يعد البيت.. والراحة.. والهواء الطلق.. والهدوء.. هم السبب. لكن الذرائع عادت كسابقاتها فيقول:
ـ آه.. آه.. إذا لم يكن البيت مكسوا بالمفروشات الجميلة.. واللوحات الثمينة تعلو جدرانه.. وطاولة طعام كبيرة في وسطه.. وتحف على الرفوف في كل مكان.. ومقاعد هزازة.. وسجاجيد ناعمة جميلة.. كيف يعمل الإنسان دون هذه الأشياء؟ يجب أن أمتلك أجهزة حديثة.. آه..آ ه.. هل ستتحقق أحلامي ذات يوم.. ويكون لي ما أردت؟.. ياربي.. عندها سأعمل بشكل لم يعهده أحد من قبل.
***
في الثانية والأربعين من عمره.. تحققت أحلامه، ونال ما تمناه ورغب فيه.. من أثاث ومفروشات.. وتحف وسجاجيد.. وصار بيته أشبه بالقصر.. لكن الحجج بقيت سببا في عدم إبداعه.. فقال:
ـ ماذا يفعل الإنسان إذا لم يتمكن من الإبداع؟.. آه.. آه.. لو تعرفون حالي. لا أحد يعرف علة الآخر عن بعد.. إنه المال.. ضيق ذات اليد.. لم أعد أقوى على التحمل.. أنا لا أنكر.. زوجتي تسعدني.. وأولادي طيبون.. وبيتي واسع فسيح.. أمامه حدائق جميلة.. تبهر الناظرين.. وثمين جدا.. وأملك أمتعة ومفروشات قيمة.. ولدي الوقت الكافي والوافي. ولكن هذا الذباب.. نعم وجود هذه الذبابات ينغص عليّ عيشي.. ويقلق راحتي.. ما هذا الذي أعانيه من هذه الذبابات؟.. آه.. آه.. لولا وجود هذا الذباب.. لعرفت كيف سأكتب.. إنه لا يتركني لحظة واحدة لأنهي أثري.. أضف إلى ذلك فأنا لا أستطيع النوم بسببها.. وفي الليل لا أستطيع العمل.. إن أغلقت النوافذ.. تشتد الحرارة.. لو وضعت "درفات" للنوافذ يتغير جمال البيت.. وإن قلت لي اعمل في الشتاء.. في الشتاء لا يوجد ذباب أليس كذلك؟.. يعني أن الذباب لا يعيش في الشتاء؟.. آه.. آه.. لولا وجود الذبابات ماذا كنت سأفعل؟ لا أدري..!
***
بما أنه مازال في الثانية والأربعين من عمره.. فأملنا كبير أنه سيأتي يوم وسيلقى الجو الملائم له.. وسيبدع في عمله المرتجى.. دون أن يأخذ شهيقا أو زفيرا..!! (دون أن يترك وقتا حتى للتنفس)..!!